الرئيسية   أعذب الإعلان واعذب الشعر..!

أعذب الإعلان واعذب الشعر..!

أعذب الإعلان واعذب الشعر..!

كتب أحمد العمار:

          كثيرا ما تثار بين القائمين على صناعة الإعلان والمختصين في العلوم الإجتماعية إشكالية مصداقية الإعلان والمبالغة في بعض أو كل مكونات الرسالة الإعلانية، خاصة ما يتعلق بحدود هذه المبالغة والهدف الذي تخدمه، وعلاقة ذلك كله ببيئة المنافسة.

          المبالغة، وبصرف النظر عن درجتها، مهمة لإنجاح بعض الرسائل الإعلانية شريطة ألا تتعارض مع المصداقية، فهي بمثابة البهارات أو ملح الطعام قليلها يضفي نكهة وكثيرها يفسد الطبخة، ذلك أن الرسالة في كثير من الحالات تقتضي إبراز ميزة دون غيرها من المزايا التسويقية، ما يستدعي التركيز عليها إلى حد تعزيز الجانب الفكاهي والغرائبي في الإعلان.

          ومازلت أذكر، بشيء من المتعة والمرح، ذلك الإعلان الخاص بحفاظات الأطفال الذي نشرناه على لوحات الطرق في عدة مدن سعودية، والذي كان يهدف لإبراز وإقناع الأمهات بميزة الامتصاص بالدرجة الاولى، حيث أظهرت الرسالة حوضي سباحة جلس في أحدهما طفل، وقد امتصت فوطته كمية الماء التي بداخل الحوض كاملة، بينما عجز الفيل، الذي كان ينظر إلى الطفل بدهشة، عن امتصاص ماء الحوض الثاني..!!

          بالطبع، ليست هذه الرسالة بالمنطقية أو العقلانية، لكنها أحدثت أثرا مهما لدى المتلقين لغرابتها وللمرح الذي تركته عند هؤلاء، ما دفع معلنين آخرين وفي قطاعات أخرى لتقليد فكرة الإعلان ذاتها بشكل أو بأخر.

          واللجوء إلى المبالغة لتوصيل رسالة ما ليس أمرا مقتصرا على العمل الإعلاني، بل لا يكاد يخلو منه عمل من الأعمال الإنسانية، سيما الإبداعية منها، فمثلا لدى رسام الكاريكاتور أدوات خاصة لكل هدف من أهداف هذه المبالغة، هذا إن لم يكن عمله قائما جملة وتفصيلا عليها، فنجده  يصور أذن موظف "سميّع"، أي ينقل أخبار زملائه إلى مدير العمل، بشكل كبير جدا، والأمر ذاته عند تضخيم صورة العين للدلالة على البصيرة الثاقبة أو إستشراف أمور مستقبلية، أو الأنف لإظهار تدخله فيما لا يعينيه وحشر نفسه في الأمور كلها، وهكذا..

          ولا يبتعد عمل السينارست والمخرج في الأعمال الدرامية والمسرحية عن هذا الإطار، ولكن بتضخيم الأحداث والمبالغة فيها وفي شخوصها والحبكة الدرامية بهدف لفت الانتباه واستقطاب المشاهدين، وفي السياق عينه يبالغ الحكواتي بطريقة الإلقاء ووقع الكلمات واستخدام الإشارات والحركات الحماسية..

          وإذا كان الشعر ديوان العرب، وهو كذلك بحق، فإن العرب تردد عبارة شهيرة تخدم الغرض من طرحنا هذا، إذ تقول (أعذب الشعر أكذبه)، لكنها تأخذ هذه العبارة على محمل التشويق وتوصيل أغراض الشعر من غزل ووصف ورثاء وهجاء، فلنرَ كم من المبالغة أقحم في بيت لشاعر أراد أن يصف نعومة جلد محبوبته:

ولو درجَ النمل الصغارُ بجلدها                          لأندبَ جلدهَا مدرجُ النملِ

فعقليا ومنطقيا، أي نوع من الجلد هذا الذي يجرح أو تترك فيه أرجل صغار النمل (أي الذر) ندبات وجروحا؟!!

          ولكننا لا نستطيع أن ننكر أن المبالغة في هذا البيت جعلت منه بيتا رائعا، واوصلت الرسالة التي أرادها الشاعر قولا واحدا، وإذا كان العرب أهل شعر وأدب، فإن المتنبي من فحولهم، وهو الذي يجمع في شعره وأدبه المبالغات كلها، فهو الفارس المقدام دواج الليل والفيافي والأديب المثقف:

الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني           والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ

وهو أيضا:

أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي                وأسمعت كلماتي من به صممُ

          وهكذا، فإن شيئا من المبالغة في الإعلان، موضع حديثنا، قد يكون محمودا، ولكن الإعلان كرسالة يجب ألا يخرج عن الضوابط الأخلاقية، والتي يمثل الصدق فيها، كما نرى، قاعدة الهرم، لأن الإعلان الكاذب يطلق على السلعة والمعلن، وربما الوسيلة الإعلامية، رصاصة الرحمة.

 

 



عدد المشاهدات: 747



إنّ التعليقات المنشورة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي موقع المؤسسة العربية للإعلان الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها



التعليقات:

إرسال تعليق:
الاسم الكامل:
البريد الإلكتروني:
البلد:
تعليقك:
يرجى ادخال رمز التحقق (حالة الاحرف غير مهمة فيما اذا كانت احرف صغيرة أو كبيرة) وبعد الانتهاء انقر خارج مربع ادخال الكود للتاكد من صحته :
 [تحديث]






للأعلى