الرئيسية   الاعتدال في السلوك و العلاقات الإنسانية

الاعتدال في السلوك و العلاقات الإنسانية

الاعتدال في السلوك و العلاقات الإنسانية

يعتبر الاعتدال سبباً للنجاة في الحياة وبلوغ المراد، فيجتاز من خلاله الإنسان كل العقبات التي تواجهه في الحياة، ويحقق ما يصبو إليه من أهداف، كما يحقق للإنسان الثبات على الطريق القويم في شتى جوانب الحياة.

الاعتدال هو أصلح الأمور دائماً..وهو الصفة التي لا يستطيع أن يعيبها أحد.. بل هو (جماع الفضائل) والخيط الذي ينظمها، فإن الفضيلة صفة متوسطة بين رذيلتين.. أي معتدلة، فالكرم مثلاً هو التوسط بين البخل والإسراف، والشجاعة هي التوسط بين الجبن والتهور.

الاعتدال هو أصلح الأمور وأكثرها سلامة.. وهو من الخصال الجميلة في التعامل مع الناس، فلا نسرف في الحب.. ولا نسرف في البغض.. بل نكون في حبنا معتدلين.. وفي بغضنا معتدلين، وحين نكون ذلك نستطيع أن نكون عادلين.العلاقات الاجتماعية المعرضة دوماً للمد والجزر والتبدل والتغير وسوء الفهم وتضارب المصالح وانكشاف المواقف وغير ذلك.. يحصل أن يتحول الصديق إلى عدو، والعدو إلى صديق.. ولكن هذا كله لا يضر الإنسان شيئاً طالما كان معتدلاً في صداقته وفي عداوته، يتوخى الحق ما استطاع إليه سبيلا، ويعامل الناس بالسماحة والرفق، ولا يندفع ولا يتطرف..

فالمعتدل في تعامله مع الناس يتلقى الصدمات الاجتماعية وقد حماه واقي الاعتدال بإذن الله، فلا يكون وقع تلك الصدمات عليه عنيفاً كما هو مع حال المتطرفين في تعاملهم مع الناس..

والاعتدال في التعامل مع الناس يعني ألا يتفاءل الإنسان بهم كثيراً، ولا يتشاءم منهم كثيراً، وبمعنى آخر ألا يعوّل عليهم بشكل مبالغ فيه، ولا ينفض يديه منهم أيضاً كالمصاب باليأس، بل هو ينظر لهذا الأمر باعتدال، ويقيسه على نفسه، فهو واحد من الناس، والعاقل خصيم نفسه كما يقال، يقيس المعدل العام للناس على نفسه، وهو يعلم - برضا - أن هناك من هو أفضل منه، ومن هو أسوأ منه.. والمعتدل في تعامله مع الناس لا يتوقع منهم الكثير، ولكنه لا يريد منهم هذا الكثير أيضا، فهو واقعي، عقلاني، ولا يعني هذا أبداً أنه مجرد من العاطفة، بل له عاطفة جميلة، ولكنها هي الأخرى متوازنة قد أحاطها العقل بسياج من الهدوء والاعتدال..

ومعرفة طبيعة الناس والحياة تجعل الإنسان يفضل الاعتدال، ويعتمده في التعامل مع الناس، كون الاعتدال فضيلة من الفضائل أصلاً، هذا أولاً، ثم لأن الاعتدال يريحه ويريح الذين يتعامل معهم، فمن طبيعة المعتدل في تعامله أنه لا يكبر الأمور (لا يجعل من الحبة قبة كما يقال) ولا يحزن من أتفه الأشياء، بل على العكس يتغاضى عن أمور كثيرة ويتغابى، وهو مشرّب بالتسامح، ولا سعادة بلا سماحة.. ولا علاقات اجتماعية طيبة بلا سماحة.. والمعتدل أقدر على السماحة، لأنه لا يندفع في بغضه ولا في غضبه، كما لا يندفع في حبه وتفانيه، وبالتالي فإن السماحة قريبة منه، خاصة أنه باعتداله قد اعتمد رجاحة العقل، فالعقل الراجح يزين لصاحبه الاعتدال، ويزينه في أعين الناس، فتكون أخطاؤهم عليه أقل بكثير من أخطائهم على الأحمق وعلى المتهور، وغني عن القول أن ردود أفعاله أيضاً تكون أهدأ وأكثر اعتدالاً وأقرب إلى العقل والتسامح من ردود أفعال الحمقى والمتهورين..

لقد ذكرنا أن الاعتدال في التعامل مع الناس من معانيه عدم الاندفاع في التفاني، وعدم الاندفاع في الأنانية طبعاً، بل هي حالة وسط، ماعدا حالات مستثناة يتفانى فيها الإنسان إذا كان التفاني واجباً، أو كان الطرف الآخر يستحق التفاني فعلاً لقرابته الشديدة أو فضله أو نحو هذا..

أما التعامل مع عامة الناس فميزانه الاعتدال الموصول: لا هناك تفان يرهق صاحبه وهو يعمله، ويرهقه وهو يرى الجحود وعدم الوفاء، ولا أنانية وقلة نفع تؤذي ضمير فاعلها وتشوه سمعته عند الناس.. "خير أعمالكم أدومها وإن قلّ" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعتدل دائم في عمل الصح ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. وهو لا يرهق نفسه مع كل طالب ولكنه يبذل ما يمكن بدون عناء شديد، ولكنه يكون صريحاً في شرح ما يمكن تقديمه، بعيداً عن الوعود الخلَّب.

وفي حياتنا نواجه أناساً فاضلين..ونواجه آخرين لؤماء..ويحسن بنا أن نعتدل في تقييم هؤلاء وهؤلاء، فلا نبالغ في اعتقادنا عن فضل الفاضلين، ولا في تصورنا عن سوء اللؤماء، فإن المبالغة لا خير فيها، وهي إلى الظلم أقرب، كما أننا حين نبالغ نخرج عن الاعتدال في معاملة هؤلاء وهؤلاء.. لا نعني هنا طبعاً أنهم يعاملون معاملة واحدة - كلا والعياذ بالله - ولكننا لا نبالغ في مجافاة أولئك اللؤماء وإلصاق كل شر بهم ومعاملتهم على ذلك الأساس، ولا نعامل أولئك الفضلاء وكأنهم ملائكة، بل نحترمهم بصدق ونعجب بهم دون أن نتطرف أو نتوقع منهم أنهم لا يزلون ولا يخطئون، والبعد عن اللؤماء هو خير تصرّف نقوم به، ولكن إذا لم نجد إلى ذلك سبيلا لظروف عمل ونحوه فيحسن أن نعاملهم باعتدال، وأن نجاملهم بعض المجاملة خلاصاً من شرهم، ولكن إذا تمادوا ولم تنفع معهم المجاملة الصغيرة فيحسن ردعهم بحزم..

وحتى لو كان الإنسان صاحب علم واسع في الموضوع فيحسن به ألا يطير بذلك فرحاً ويتحدث عنه وكأنه يقطر بالتفاخر، بل يعتدل في القول ويوضح بأسهل لفظ وبإيجاز، فالمجالس أخذ ورد، وأحاديث متبادلة، والجدال فيها وارد واختلاف وجهات النظر طبيعي، وحتى المخطئ سيدافع عن وجهة نظره بقوة، لأنه يظن أنه على صواب، كما أن المجالس فيها مزاح قد يقل أو يكثر، وقد يعذب أو يسمج..

والاعتدال يحمينا شرور ذلك كله، ويمنعنا بأفضل المجالسات: الاعتدال في المزاح، وفي الجدال، وفي الصمت والحديث..

وهنالك العزلة والاختلاط بالناس، وللمفكرين فيهما آراء ومذاهب، وإن كان أكثر المتميزين والموهوبين يجنحون إلى العزلة في الغالب، وكذلك كثير من الناس، وآخرون لا يفضلون على الاجتماع الدائم شيئا، ويصاب واحدهم بالاكتئاب لو انعزل قليلاً.. ولا مشاحة في الأذواق.. غير أن الاعتدال يخرج لنا مرة أخرى.. ويسعفنا كعادته دائما.. فالتوسط بين العزلة والاجتماع أقرب إلى الراحة والسعادة.. حتى وإن كان الإنسان يميل بطبعه الى العزلة فإنه يحسن به أن يخرج من طبعه أحيانا ويخالط الناس والمجتمعات باعتدال، لينال متعة العزلة والاجتماع معاً.. والذي مثلاً طبعه حب الاجتماع الدائم يحسن به أيضاً أن يخفف "زر غباً تزدد حباً" وأن يجرب العزلة أحياناً، ويذوق حلاوة الخلوة بالنفس، وجمال الهدوء والسكون، والتأمل والتفكير، وتجريب هوايات أخرى كالقراءة مثلاً.

ميزة الاعتدال في التعامل مع الناس أنه يجنبك الشطط بكل معانيه، ويمنحك شخصية متزنة ناضجة، وقادرة على تحييد الآثار السيئة لذلك التعامل.. وليست الفضيلة وحدها هي الاعتدال.. السعادة أيضاً اعتدال..

 



عدد المشاهدات: 6910



إنّ التعليقات المنشورة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي موقع المؤسسة العربية للإعلان الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها



التعليقات:

إرسال تعليق:
الاسم الكامل:
البريد الإلكتروني:
البلد:
تعليقك:
يرجى ادخال رمز التحقق (حالة الاحرف غير مهمة فيما اذا كانت احرف صغيرة أو كبيرة) وبعد الانتهاء انقر خارج مربع ادخال الكود للتاكد من صحته :
 [تحديث]






للأعلى