الرئيسية   نظرية القوة القاهرة((الجزء الثاني))

نظرية القوة القاهرة((الجزء الثاني))

 

(الجزء الثاني)

نظرية القوة القاهرة والظروف الطارئة وأثرهما على الالتزام

العقدي في القانون المدني السوري

 

تتمة لما قدمناه سابقاً عن نظرية القوة القاهرة نرغب أن نستكمل اليوم بحثنا بالحديث عن نظرية الظروف الطارئة وتوضيح نقاط الالتقاء والاختلاف مع القوة القاهرة.

إن الأساس القانوني لنظرية الظروف الطارئة هو العدالة بحيث تقوم على مسألة اختلال التوازن الاقتصادي في المرحلة اللاحقة لتكوين العقد، كحصول حوادث استثنائية عامة غير متوقعة أثناء التنفيذ، بحيث يصبح تنفيذ التزام المدين مرهقاً، أي تلحق به خسارة جسيمة إذا تم تنفيذ العقد، إلاّ أنه ليس مستحيلاً كما في القوة القاهرة، كأن يتعهد شخص بتوريد سلعة بثمن معين ثم تنشب حرب مفاجئة فيتعذر استيراد السلعة من الخارج ويرتفع ثمنها على الملتزم بتوريدها إلى أضعاف الثمن المتفق عليه وإذا بلغ هذا الارتفاع قدراً معيناً فهو يهدّد المدين بخسارة فادحة تجاوز الحد المألوف، وعندئذ يجوز للقاضي بموجب نظرية الظروف الطارئة أن يعدّل التزام المدين بحيث يقف عند الحد المعقول، ومثال ذلك: ((إذا كان هناك عقد مع شركة يتجاوز رأسمالها مليار ليرة سورية وهذا العقد عقد توريد محروقات بقيمة عشرة ملايين ليرة سورية، ثم حصل ارتفاع كبير بأسعار المحروقات كما هو حاصل في بلادنا أيامنا هذه، فهذا الارتفاع بالسعر لا يؤثر على الشركة لكنه مع ذلك يعدّ من الظروف الطارئة ويتم تخفيض الإرهاق بتوزيع الخسائر بين البائع والمشتري)).

وهذا ما ذهبت إليه محكمة النقض السورية بحيث جاء في إحدى أحكامها: ((إن الارتفاع أو الانخفاض الفاحشين في الأسعار يشكل حادثاً استثنائياً عاماً غير متوقع تسوده نظرية الظروف الطارئة ويخوّل القاضي رد الالتزام المرهق إلى الحد المعقول وإعادة التوازن الاقتصادي للعقد)).

مثال ذلك: إذا كان ثمن ليتر البنزين عند التعاقد ثلاثين ليرة سورية ثم ارتفع بسبب الحرب إلى مائة ليرة سورية فيؤخذ بالاعتبار الزيادة المألوفة للأسعار وهي عشر ليرات سورية لليتر الواحد حيث يتحملها المدين وحده، أما باقي الزيادة أي الستين ليرة فيتم تقسيمها مناصفة بين الطرفين وللقاضي أن يوقف تنفيذ العقد لفترة محدودة ولكنه ليس له فسخ الحادث بسبب الحادث الطارئ وليس له أن يفرض على المشتري الشراء بالسعر المعدّل.

وتلتقي الظروف الطارئة مع القوة القاهرة من حيث أن كلاً منهما أمر غير متوقع الحدوث عند التعاقد ولا يمكن دفعه ويفترقان في النقاط التالية:

  1. الظروف الطارئة لا تؤدي إلى استحالة تنفيذ الالتزام بل إلى جعله مرهقاً ولذا يكون الجزاء فيه هو رد الالتزام إلى الحد المعقول، أما القوة القاهرة فإنها تؤدي إلى استحالة تنفيذ الالتزام وانقضائه تبعاً لذلك.
  2. الظروف الطارئة يجب أن تكون عامة أما القوة القاهرة فيمكن أن تكون عامة أو خاصة.
  3. الظروف الطارئة من النظام العام وبالتالي لا يجوز الاتفاق مقدماً على استبعادها (أي لا يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة الظرف الطارئ قبل وقوعه) أما في القوة القاهرة فهي ليست من النظام العام وبالتالي يجوز الاتفاق مقدماً على استبعادها (أي يجوز الاتفاق على أن يتحمل المدين تبعة القوة القاهرة قبل وقوعها) ولا تُطبق نظرية الظروف الطارئة إلا إذا كان اختلال التوازن المالي للعقد مؤقتاً أمّا إذا كان دائماً أو نهائياً فيلجأ إلى فسخ العقد ونكون أمام حالة القوة القاهرة.
  4. السلطة التقديرية للقاضي في حالة الظروف الطارئة لا وجود لها في حالة القوة القاهرة، حيث يوجب القانون على القاضي في حالة الظروف الطارئة عند التعديل أن يتقيد بمبدأ عام وهو الموازنة بين مصلحة الطرفين وليس له في سبيل تجنيب المدين الخسارة الفادحة أن يوقع الدائن في خسارة فادحة، كما جاء في قرار لمحكمة النقض السورية ((إن نظرية الظروف الطارئة المنصوص عليها في م(148) مدني تهدف إلى إزالة الارهاق الذي يحلّ بالمدين من جراء تنفيذ التزامه، فإذا لم تلحق المتعاقد أية خسارة أو لحقت به خسارة لا تزيد عن الحد المألوف فلا مجال لتطبيق هذه النظرية علماً بأن فوات الربح لا يعتبر من قبيل الخسارة)).

وأخيراً نرى أن نظرية الظروف الطارئة تعتبر حالة مخففة من القوة القاهرة بحيث أن القوة القاهرة تجعل تنفيذ الالتزام مستحيلاً ( Ali impossible nul n'est tena) ويترتب عليه إبراء ذمة المدين في جميع الأحوال إذ لا يكلف أحد بالمستحيل أو الالتزام بالمستحيل بينما الظروف الطارئة تجعل تنفيذ العقد مرهقاً لا مستحيل التنفيذ.

وأخيراً إذا ما أخذنا ما تمر به بلادنا حالياً نرى كثرة تطبيقات لحالة الظروف الطارئة والقوة القاهرة، بحيث أن المدين يريد أن يتمسك بتوافر القوة القاهرة بسبب التأخير في تنفيذ العقد عن الموعد المحدد له بسبب الظروف الراهنة والاضطرابات الأمنية محتجاً بالقوة القاهرة أو الظروف الطارئة بحيث لا يمكنه تنفيذ التزامه أو التأخير في التنفيذ أو سوء التنفيذ وهذا من أهم مظاهر الخطأ الذي يجب أن نحاربه لأنه يحرم المدين من التمسك بالقوة القاهرة، ومثال ذلك: يعتبر البنك مسؤولاً عن تدهور قيمة الأوراق التجارية إذا ما تأخر في تصدير تلك الأوراق ثم فاجئت البنك سلسلة متصلة من الأحداث كالحرب وهجرة المواطنين ووصول مسلحين أو عمل إرهابي وعليه انقطاع سبل المواصلات مما عرض الأوراق التجارية لمخاطر استثنائية ما كانت لتحدث لو قام البنك بتصدير تلك الأوراق في الموعد المحدد لها قبل تدهور قيمتها، وكذلك المقاول المكلف بأعمال التشييد والبناء يعتبر مخطئاً إذا تأخير في تنفيذ التزاماته وأنه لا صحة لإدعائه بتوافر القوة القاهرة التي حدثت بعد التاريخ المحدد لإنهاء الأعمال وكان المقاول قد تأخر في التنفيذ سعياً وراء أعمال أخرى أكثر ربحاً.

وعليه لا يجوز للمدين أن يستفيد من الإعفاء بتوافر القوة القاهرة عندما يتسبب هو في تلك القوة القاهرة نتيجة تأخره في التنفيذ، ويؤخذ على المدين أنه لم يراع الحرص والحذر الواجب فالعقد كان يجب أن ينفذ بصورته الطبيعية حسب الاتفاق عليه ، أما إذا كان السبب في التأخر في التنفيذ خارج عن إرادة المدين في هذه الحالة يعفى من المسؤولية، وختاماً يمكننا القول بأن الإنسان يواجه في حياته حوادث كثيرة وخاصة الحوادث التي نشهدها في سوريا الآن بحيث تكون هذه الحوادث من الشدة والعنف والمباغته بحيث يقف الانسان أمامها مشلول الإرادة مكتوف الأيدي عاجز عن مواجهتها والتغلب عليها كما هو الحال في القوة القاهرة، ولكن من ناحية أولى يتوجب على الفرد احترام تعهداته والتزاماته تجاه الغير باعتبار العقد شريعة المتعاقدين وإلاّ سادت الفوضى وعمّ الاضطراب، ومن ناحية ثانية يبدو من الظلم والإجحاف أن يتحمل الفرد نتيجة أعمال وأفعال لا ترجع إلى فعله أو خطئه ولم يكن لإرادته دخل في حدوثها وترتب عليه عدم قدرته على تنفيذ تعهداته والتزاماته فمن هنا تثار الإشكالية القانونية موضوع بحثنا وهي القوة القاهرة التي جاءت لتلاءم بين هذين الأمرين وهما ضرورة تنفيذ التعهدات واستحالة ذلك في بعض الأحيان بحيث تكون قوة قاهرة فوق قدرة الإنسان وطاقته ويتوجب توافر علاقة إسناد بين هذه القوة والسبب الأجنبي الذي يجب أن يكون السبب الحقيقي والمباشر لحدوث القوة القاهرة وبالتالي أدى إلى استحالة التنفيذ وبإثبات السبب الأجنبي المتمثل بالقوة القاهرة أو بفعل الغير تنشأ استحالة التنفيذ التي تنتفي معها مسؤولية المدين عن عدم التنفيذ.

          المحامي

موسى سامي خليل

 



عدد المشاهدات: 16826



إنّ التعليقات المنشورة لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي موقع المؤسسة العربية للإعلان الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها



التعليقات:

إرسال تعليق:
الاسم الكامل:
البريد الإلكتروني:
البلد:
تعليقك:
يرجى ادخال رمز التحقق (حالة الاحرف غير مهمة فيما اذا كانت احرف صغيرة أو كبيرة) وبعد الانتهاء انقر خارج مربع ادخال الكود للتاكد من صحته :
 [تحديث]






للأعلى